التّرجمة من أجل الفنّ، في مواجهة تسطيح الكتابة

تقديم لملفّ “قصص من سوريّة” المنشور بالتّزامن في “ذي كومون” (الولايات المتّحدة، بالإنجليزيّة) وأخبار الأدب (مصر، بالعربيّة)

هشام البستاني

للمرّة الثانيّة، وبتعاونٍ أدبيّ ذي سويّة رفيعة سيستمرّ لسنواتٍ قادمة (على ما آمل) بين طرفيّ الأطلسيّ، تنشر أخبار الأدب اليوم، في هذا الملفّ الخاص، الأصل العربيّ لقصص خطّتها أقلام كاتبات وكتّاب من سوريّة، بالتّزامن مع نشر التّرجمة الإنجليزيّة لها في ملفٍّ خاصٍّ موازٍ ومجاور، تنشره مجلة “ذي كومون” الأدبيّة الصادرة من جامعة آمهيرست العريقة في الولايات المتّحدة في عددها رقم 17 (ربيع 2019). الملفّ الأول تضمّن قصصًا من الأردن، ونُشر في العدد رقم 15 (ربيع 2018)، أما فاتحة هذا التّعاون المشترك، فكان العدد 11 (ربيع 2016): عدد كاملٌ خاصٌّ من المجلّة، صدر تحت عنوان: “تجديد”، حرّرتُهُ إلى جوار رئيسة تحرير “ذي كومون” جينيفر آكر، خُصّص كاملًا للقصّة العربيّة مترجمة إلى الإنجليزيّة، وضمّ قصصًا لـِ26 كاتبًا وكاتبة، ومساهمات لخمسة فنّانين وفنّانات، من 15 بلدًا عربيًّا، عمل على ترجمة نصوصهم 18 مترجمًا ومترجمة. هكذا، وعلى مدار أعوام كثيرة قادمة كما آمُل، سنمرّ على البلدان العربيّة كلّها، وعلى ثيمات مختلفة ومتعدّدة، لنفتح ثغرة في جدار اللامبالاة العنيدة التي تواجه الأدب المُترجم عمومًا، والأدب العربيّ المُترجم خصوصًا، في العالم النّاطق بالإنجليزيّة. 

هذا الشكل “التزامنيّ” في النّشر بين التّرجمة الإنجليزيّة، والأصل العربيّ، هامٌّ جدًّا من عدّة جوانب: أوّلها التّأكيد على أنّ النّصوص بلغتها الأصليّة، والنّصوص المُترجمة، مترابطةٌ بعضها ببعض، لكنّها منفصلة في ذات الوقت، من حيث أن التّرجمة هي أيضًا فعل إبداعيّ قائم بذاته؛ ومثلما تتجاور وتنفصل النّصوص الأصليّة والمترجمة في الكتب الثنائيّة اللّغة، يحصل هذا “التّجاور” بين “ذي كومون” و”أخبار الأدب” من على ضفّتي محيط، ومن على بعد آلاف الكيلومترات. 

يأخذنا هذا إلى الأهميّة الثّانية لهذا التّزامن: أنّه يأتي في سياق صور سطحيّة مسبقة باتت مُهيمنة وكاسحة، وتدخّل سياسيّ وعسكريّ، وهيمنة اقتصاديّة، وإفقارٍ واستغلال يترافقان مع منعٍ للحركة والانتقال، تطبع المشهد السياسيّ، والتّصوّرات المقدِّمة والمرافِقة له، واللّاحقة عليه، بين “الشّمال” و”الجنوب”، أو “الغرب” و”الشّرق”، الذي يمثّله مجاز المحيط: متّسع وشاسع وفاصل، لكنّه قابلٌ (بالجهد والتّفكير والتّخطيط) أن يُعبر بالاتّجاهين، بعيدًا عن تلك التصوّرات، وعلى النّقيض من علاقات القوّة والهيمنة والتسلّط أحاديّة الاتّجاه التي تفرضها السّياسة. 

الأدب هنا يقف كاملًا، مُختالًا، دافعًا صدره إلى الأمام: نوعٌ من حوار الأنداد بين سياقين متساويين بالمعنى الإبداعيّ والفنيّ، يرفض أحدهما أن يَنظر باستعلاء إلى الآخر، أو أن يَحطّ من قيمته، أو أن يُنظر إليه باستخفافٍ ودونيّة.

الثّغرة الثانية نفتحها انحيازًا للكتابة الفنيّة، غير المروّضة، ولا المُهادنِة، ولا المنضبطة بمعايير صارت تحكم المشهد الكتابيّ اليوم في العالم العربيّ، بجوائزه ومؤسسّاته، والسّلطات التي تقف في الخلف منها، إذ تفعل فعلها في تحويل الكاتب إلى هُلامٍ لاهثٍ خلف الأموال، والشّهرة، والنجوميّة؛ خلف القبول، والمكانة، والحظوة، مُسطّحًا فعل الكتابة نفسه خلال ذلك. تستحقّ الكتابة الفنيّة العربيّة (التي أراها -في بعض تجليّاتها اليوم- واقفة على قدم المساواة مع أبدع إنتاجات الثّقافات الأخرى) أن يُشار إليها، وأن تُترجم، وأن تكون هي الممثّل الحقيقيّ للأدب العربيّ في العالم، وأن تكون هي مُساهمته في المشهد الثقافيّ العالميّ.

خلال الأعوام الأخيرة، باتت خيارات الجوائز الباذخة (خيارات مُعقّمة، عاديّة، ورديئة أحيانًا)، التي تقوم عليها دولٌ وسلطاتٌ مُحافظة، ولجان تحكيم لا تتمتّع غالبًا بالحصانة من التدخّل في مداولاتها وقراراتها، هي مدخل الأدب العربيّ للترجمة، إذ تتعهّد تلك الجوائز بترجمة الفائزين بها ضمن إطار الكرنفاليّة والتزويق والجذب الذي تحيط نفسها به. 

جزءٌ من خيارات التّرجمة صار محكومًا بهذه الآليّة، بينما يُحكم جزءٌ الآخر بنجاحات “الأكثر مبيعًا”، أو الذائقة الاستشراقيّة “الغربيّة” وهي تنتقي من الأدب ما يناسب الصُّور المُسبقة الرّاسخة المصاحبة لفترات الاستعمار السابقة، والاستعلاء والتدخّل الحاليّين، المتمثّلة بالـ”شرقيّ” المتخلّف، الهمجيّ، ومجتمعه المكبوت، وامرأته المقموعة، خارج سياق الظواهر المُولّدة لهذا كلّه، بما في ذلك السّلطة بأشكالها المختلفة، و”الغرب” نفسه بهيمنته، واحتكاراته، ورأسماليّته، وعنصريّته، وازدواجيّة معاييره. 

وحتّى إن نجى النصّ المترجَم نفسه من هذه المقاربة، فلن ينجو غلاف الكتاب (عادةً: امرأة تختفي ملامح وجهها خلف خمار، بغضّ النظر عن الموضوع) الذي سيعيد إنتاج النصّ في ذات السياقات الاستشراقيّة التي تُقدّم “فهمًا” مُريحًا ومُرضيًا للـ”مستهلك”، تضمن زيادةً في المبيعات من جهة، فيما تتعامل هذه التصوّرات مع الأدب -من جهة ثانية- باعتباره امتدادًا لحقول الدّراسات الاجتماعيّة والأنثربولوجيّة: ثقبٌ للتلصّص، و”البحث”، و”الدّرس”، لتشكيل صورةٍ مُصاغةٍ سلفًا، أو (في أحسن الأحوال) كمادّة لبثّ التّعاطف، والشّفقة، وما يستتبعه ذلك من تعزيز الموقف “المتفوّق” للغرب. 

يختلف عالم نشر المجلّات الأدبيّة في الولايات المتّحدة وبريطانيا، عن صنوه التجاريّ الخاصّ بالكتب. ففي حين يتمسّك الأخير (بأشكال مختلفة من الشدّة) بضرورات التّسويق والمبيعات والرّبح، ويوجد باعتباره “صناعة” أو “بِزْنِس”، فإن الأوّل يصدر (في أغلبه) عن الجامعات، لا يبغي الرّبح، ويموّل نفسه بواسطة دعم الجامعات نفسها، والمنح المختلفة المتاحة لمثل هذا النّوع من النّشر، والاشتراكات. الأولويّة الوحيدة فيه هو للجدارة الفنيّة، والنوعيّة، والاتّجاه الفنيّ الذي تمثّله هيئة تحرير المجلّة، وهذه هي معايير النّشر في ملفّات الأدب العربيّ المترجمة في “ذي كومون”، مضافًا إليها طبقات متعدّدة من تحرير النّصوص العربيّة، وتدقيق ومراجعة الترجمات، ومن ثمّ تحريرها، لنقدّم، وبشكلٍ عالي الجودة،  جرعة فنيّة مركّزة، تمثّل نسبيًّا اتّجاهات وأجيال الكتابة الفنيّة في العالم العربيّ. 

بهذا استطعنا تحقيق إضافة نوعيّة إلى الحديث المتكرّر الذي يقدّم التّرجمة باعتبارها جسرًا بين ثقافتين، ووسيلة لتعارفهما. التّرجمة هنا تأخذ مهمّة كسر الأنماط والتصوّرات المسبقة، وإعطاء الأولويّة لما هو “فنيّ” و”إبداعيّ” على ما هو مفيدٌ لـ”فهم المجتمعات” بشكلٍ سطحيّ، أو التلصّص عليها؛ وتحدّي، أو إلغاء، “منطق السّوق” بعدم الرّكون إلى “ما يطلبه” أو يستسيغه أو يرتاح له الجمهور. ولأن القائم على المشروع مجلّة أدبيّة، ليس ضمن أولويّاتها أو همومها البيع والنّجاح التجاريّين، صار من الممكن أيضًا تجنّب أيّة تأثيرات أو اعتبارات تجاريّة، وهي حالة نادرة في عالمنا المُعاصر توفّرها تلك المجلّات، ينجو بوساطتها الفنّ من أَسْر التّسليع.

لا تدّعي هذه الملفّات أيّة شموليّة أو تمثيل كليّ، فمحدوديّة عدد الصفحات المُتاحة، والموازنة المُخصّصة للترجمة، تمكّنني من اختيار ثمانية أو تسعة كاتبات وكتّاب من مدارس وأجيال وتوجّهات فنيّة مختلفة، لكن، ومن باب آخر، يُمكن النّظر إليها كعيّنة مُختارة، آمل من خلالها مُساءلة تحوّلات الكتابة وأشكال التأثير عليها في العالم العربيّ اليوم من جهة، واختبار تحوّلات النّصوص الفنيّة من لغة إلى أخرى على يد مترجمات ومترجمين قديرين من جهة ثانية، والدّفع بالكتابة الفنيّة العربيّة إلى آفاق جديدة قد لا تُتاح لها دون هذه النافذة من جهة ثالثة. 

تتراوح أساليب كتابة قصص هذا الملفّ لتشمل مروحة واسعة مُعبّرة، من الشكل الأقرب إلى الكلاسيكيّة، إلى أشكال أكثر تجريديّة وتكثيفًا؛ من الواقعيّة التسجيليّة، إلى أشكال تتداخل فيها الهلوسات بالذكريات بالوقائع؛ من السّخرية السوداء، إلى المأساويّة الفجائعيّة؛ من إعادة إنتاج قصص أسطوريّة في سياق معاصر، إلى أسطرة الواقع المُعاصر نفسه وترفيعه إلى ما يشبه الميثولوجيا؛ من الدّهشة والصّدمة، إلى التأمل والتمهّل. 

تأخذنا قصص هذا الملفّ إلى عمق مأساة سوريّة والسّوريّين التي صارت الآن حدثًا يوميًّا عابرًا، مأساة لم تبدأ منذ أقل من عقد من الزمن كما قد يُظنّ، لأنّ الجرح عميق، وهو في ملفّنا هذا يبدأ من عام 1968 بقصّة لحيدر حيدر تبحث الانفجار الداخليّ والخارجيّ لمعتقل سابق عذّبه الصّهاينة جسديًّا ونفسيًّا قبل الإفراج عنه، ويمرّ بالحساسيّات الصغيرة الدّقيقة للهارب، والمُطارد، والسّجين، والتي يبحثها إبراهيم صموئيل في قصص ثلاث، ويستمرّ بأحاديث بين صديقتين في مول في دبيّ “بعد الأحداث” (أي بعد الانتفاضة السوريّة) في قصتين لعديّ الزعبي.

كما في الواقع، يأخذ القمع في القصص أشكالًا عدّة، ووجوهًا مختلفة: فهو تارةً قمع سلطويّ يتمثّل بالرّقابة المباشرة والتنصّت كما في قصّة كوليت بهنا، أو هو ذكوريّ مجتمعيّ نفاقيّ كما في قصّة شهلا العجيلي، أو هو تجريدات ذهنيّة وتحوّلات في الوعي كتلك التي يقدّمها محمد إبراهيم نوايا في شذراته. وبينما تذهب بنا روعة سنبل إلى وقع القمع والحصار والجوع والخوف، على الدّاخل الإنسانيّ نفسه، يحملنا لقمان ديركي في رحلة نادرة وبالغة الطرافة إلى مناطق “التماسّ” المجتمعيّة-الثقافيّة-السياسيّة الكرديّة العربيّة التركيّة، جاعلًا من السّخرية السّوداء، والظُّرف، أداة لسبر غور العبث اليوميّ لمثل هذا الوجود الاجتماعي الطبيعيّ الممتدّ دون حدود داخليّة حقيقيّة، والمفكّك قسرًا من خارجه بحدود خارجيّة مفروضة. 

لن يخفى على القارئ المجاز الهائل المتمثّل في توزّع كُتّاب هذا الملفّ (وهم جميعًا من بلدٍ واحد) على أربعة أرجاء الجغرافيا الأرضيّة: منهم من يقيم في دمشق، ومنهم من يقيم معتكفًا في قريته الأمّ “حصين البحر” على ساحل المتوسط، ومنهم من يقيم في السّودان، وآخرون في الأردنّ، والسّويد، وفرنسا، لذا، فإن هذا الملفّ بنصوصه هو شكل من أشكال الاشتباك الفنيّ مع الذاكرة، والحنين، والوطن، والهويّة، والموقع، والوجود، والأمس، والآن، وغدًا.

في النهاية، لا بدّ من الإشارة إلى جهود المساهمين في هذا الملفّ، إذ قام على ترجمة قصص هذا الملفّ إلى الإنجليزيّة مجموعة من المترجمين الأدبيّين البارزين هم: مايا ثابت، جوناثان رايت، أليس جوثري، وروبن موجر، وشاركتني في تحرير الترجمة رئيسة تحرير مجلّة “ذي كومون” جينيفر آكر، والتي تستحقّ الإشادة أيضًا على استمرارها في دفع هذا المشروع قدمًا، كما يستحقّ طارق الطاهر، رئيس تحرير أخبار الأدب، التقدير لاهتمامه بهذا التعاون المشترك، ونشر الملفّ بالعربيّة ضمن ملحق خاص منفصل مع الصحيفة، كما أشكر متحف هنديّة للفنون لإتاحته مجموعة هامة من مقتنياته لفنّانين متميّزين من سوريّة، لتنشر إلى جوار هذه القصص، ليصبح الملفّ أشبه بحوار فنيّ تتجادل مكوّناته، وتتكامل. 

——————

هشام البستاني هو محرّر الأدب العربي في “ذي كومون”، وهو كاتب وقاصّ وشاعر من الأردن، صدر له: عن الحب والموت (الفارابي، 2008)، الفوضى الرتيبة للوجود (الفاربي، 2010)، أرى المعنى (الآداب، 2012)، مقدّمات لا بدّ منها لفناءٍ مؤجل (دار العين، 2014)، شهيقٌ طويلٌ قبل أن ينتهي كلّ شيء (الكتب خان، 2018). وصِف بأنه “في طليعة جيل غضب عربي جديد، رابطًا بين حداثة أدبيّة لا تحدّها حدود، وبين رؤية تغييرية جذريّة”. تُرجمت قصصه ونصوصه الشعريّة إلى لغات عدّة كالإسبانيّة والتركيّة والألمانيّة والصينيّة والفيتناميّة، ونُشرت الإنجليزيّة منها في دوريّات بارزة في الولايات المتّحدة، وبريطانيا، وكندا، وأيرلندا. اختارته مجلة ذي كلتشر ترِب الثقافية البريطانية واحداً من أبرز ستّة كتّاب معاصرين من الأردن عام 2013. حاز كتابه أرى المعنى على جائزة جامعة آركنسو (الولايات المتحدة) للأدب العربيّ وترجمته للعام 2014، وصدر بنسخته الإنجليزيّة عام 2015 عن دار نشر جامعة سيراكيوز – نيويورك. أدرجت إحدى قصصه في الكتاب الأنطولوجيّ الأوّل لـ أفضل القصص القصيرة الآسيويّة(سنغافورة، 2017). حاز عام 2017 على جائزة الإقامة الأدبيّة في مركز بيلّاجيو (إيطاليا) التّابع لمؤسسة روكفلر.

التّرجمة من أجل الفنّ، في مواجهة تسطيح الكتابة